Quantcast
Viewing all articles
Browse latest Browse all 45872

الناجحون.


الناجحون



يحيى بن إبراهيم الشيخي


الناجحون في الحياة هم بشرٌ مثلُنا لم يولدوا على أرائكَ من حرير، ولم يعيشوا في قصور من الياقوتِ، بل إنهم يأكلون كما نأكلُ، ويشربون كما نشربُ، وينامون كما ننامُ، لكنهم قومٌ اكتشفوا ذواتهم، وعرفوا قدراتهم؛ فأحسنوا توظيفَها وشمَّروا عن سواعد الجدِّ، ونبذوا التسويفَ والكسل، وأخذوا يفكِّرون ويُخطِّطون في رويَّة واستشارة ذوي الآراء السديدة لما ينوون القيامَ به، فإذا تمَّت خارطة العمل، وجُمعت أدواته، بدؤوا التنفيذ بكل دقَّة، حتى إذا تم عملهم، وجفَّ عرقهم، ورأوا إعجاب الناس بهم - قالوا : (نجحنا!).


أيها المسلم الحبيب، إن قطار الحياة لا يهتمُّ بالجالسين على قارعة الطريق، وإن الرغبة في إنجاز عمل يفوق قدراتك، أو تحقيق هدف دون تخطيط مسبق، لا يخرجُ عن كونه ضربًا من الأماني والخيال، قل لي بربك : كيف لطيرٍ كُسر جناحاه أن يطير؟! وكيف يدخل سباقًا مَن شُلَّت رجلاه؟! فإذا كنت قادرًا على الإنجاز، فشمِّر عن ساعديك، واحتجز إزارك، ورتِّب أولوياتك، فإذا عزمت فتوكَّل على الله، والله معك، واعلم أن الأقوياء في تنافسٍ وسباق مستمرٍّ، والأيام دول، والزمان لا يعود.


أخي الحبيب، إذا أردت النجاح فإياك والعجلةَ، قال بعض الحكماء : "إياك والعجلةَ؛ فإن العرب تكنيها : "أمّ الندامة"؛ لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهمَ، ويعزم قبل أن يفكِّر، ويقطع قبل أن يقدر، ويحمد قبل أن يجرِّب، ويذم قبل أن يَخْبُر، ولن يصحب هذه الصفة أحدٌ إلا صَحِب الندامة، واعتزل السلامة"؛ (زهر الآداب؛ للقيرواني ج3 ص : 942).


واعلم أن لكل بداية نهاية، وكل آتٍ قريب، والعبرة بالخواتيم، ولكن المهمَّ ماذا زرعت؟ وماذا قلت؟ وماذا عملتَ؟ لأن النهاية قَرُبت، والناقدون ينتظرون منك هفوة؛ فلا تترك لهم مجالًا.


هذه هي الحياة، أهل الثناء قليل، فلا تنتظرهم، ولا يَشغلنَّك أهل النقد؛ فما أكثرهم!


قوم نصَّبوا أنفسهم بالمرصاد على قارعة طريق أهل البناء والمجد؛ ليعثروا أقدامهم عن المسير، والمواصلة، لا لشيء إلا لعجزهم أن يكونوا مثلَهم؛ فاضطروا لذلك حسدًا من عند أنفسهم، فلا هم نجحوا في الحياة، ولا تركوا الفرصة لغيرهم، فما أحقرهم! ساء ما يفعلون!


تحقيق الأهداف يا سادة يحتاج من صاحبه إلى عمل دؤوب بالليل والنهار، وتضحية بالمال والأوقات، وقلة نوم، وهجر للشهوات، ولكن ما ألذَّ النهايات، التي تُنسي صاحبَها في ساعة إعلان النجاح كلَّ معاناة مرت به طريقه! فهذه عواقب الجدِّ والنجاح، وأمَّا ما سواه فلا يحصد إلا ما جنى، فـالجزاء من جنس العمل، وصدق الشاعر في قوله :


مَن يزرعِ الشرَّ يحصدْ في عواقبه **** ندامةً، ولحصد الزرع إبَّان


فكن ممن يزرع بَذرة الخير، فإن لم تزرع فابذل الثناء لزارعها وساقيها.


أخي القارئ، كم عشنا الماضي فضاع منا، وها نحن نعيش الحاضرَ ونراه يتفلَّت كتفلُّت الإبل في عقلها، فهلَّا حافظنا على ما بقي من حاضرنا؛ لنجعله محطة تفكير لما ينبغي فعله في المستقبل؟


إن الذي ينشغل بماضيه فإنما يضيع وقته، ويتلف عقله، ويعطل قدراته عن العطاء، ويكون عالةً على المجتمع، فمن أجل أن يستمرَّ عطاؤك أخي الحبيب لا تنشغل بالأمس، وفكِّر في يومك الذي أنت فيه :

ما الذي يجب عليك أن تقدِّمه لنفسك وللآخرين؟ الناس تنتظر منك أن تقدِّم لها شيئًا، فإذا كنت في بلد فلا ترحل عنه حتى تصنع شيئًا فيه خير للناس، أو تقول فكرة، فإن لم تجده فابذر بذرة صالحة ينتفع بها مَن بعدك، وتحصِّل بها عند الله أجرًا، هكذا ينبغي أن تكون.


وإياك والأنانيةَ؛ فهي داء خطير عافانا الله وإياكم، فعندما جاء الإسلام كان من أهم أهدافه زرع المبادئ الحميدة التي تقوِّي روابط المحبة بين جميع فئات المسلمين، وجعل وجودها من كمال الإيمان، وقد أثنى الله على الأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان، ووصفهم بقوله : ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]، وبقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا يؤمنُ أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه))؛ رواه البخاري ومسلم.


فهذا مبدأ عظيم يغرسه الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه خاصة، وفي قلوب المسلمين عامة، ومن أهم أهداف هذا المبدأ نبذ الأنانية من نفوس المسلمين عامة.


فيا أيها السادة الأعزاء، إن الأنانيَّة داءٌ خطير منبوذ من الشريعة الإسلامية، وقد حثَّ الإسلام مرارًا على التركيز على محو هذا الداء من نفوس المسلمين؛ فانتقل من نبذه عن الأفراد إلى نبذه عن المجتمع، ومن ذلك الجيران؛ قال صلى الله عليه وسلم : ((مَن بات وجارُه جائع وهو يعلم، فقد بَرِئتْ منه ذمة الله)).


فالرجل الأناني غيرُ محبوب من الناس؛ لأنه لا يحبُّ للناس ما يحبُّ لنفسه؛ فهو يتتبع مواطن الخير خفية دون أن يعلمه أحدٌ، ويذهب بالظلام حتى لا يراه الآخرون، فيسبقوه إلى ما يريد.


ينتفعُ بغيره ولا ينفعهم، لئيم الطِّباع، حقود، حسود، ولئن قلت : إنه أشدُّ لؤمًا من الذئب ما بالغت!


يعمل في الخفاء ولا يُشعِر به أحدًا؛ ليحوز ما يريد؛ حتى لا يحسده الآخرون، فهو بئس الرفيقُ في السفر والخليفة في الأهل! مَن جرَّبه عرفه، وعاف صحبته وطبعه، إذا احتاجك صاحبَك، وإذا احتجته تمعَّر وجهه، وتلون، وطلب العودة إلى الديار، وأبدى العلل والأعذار، فبئس الرفيقُ والصديق، لا يحقق إلا مناه، ولا يمشي إلا في هواه! فاحذره ولا تعتمد عليه، وإن قال : أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا، فصحبة شيخٍ كبير السن وقور خيرٌ من شاب فتيٍّ (أناني في الخير).

Viewing all articles
Browse latest Browse all 45872

Trending Articles